[b]ليتها كانت يدى
تاريخ النشر : 2010-11-18
——–
تربى تربية صارمة ظلت تفاصيلها عالقة بذهنه،حتى بعد أن دلف الى حضارة المدينة نازحا" من أعماق الريف سعيا" لرغد العيش ،تأقلم مع إيقاع الحياة السريع ،عمل كالآلة التى لا تتوقف تروسها عن الحركة ،لم يكن له خيار آخر لاطعام الافواه الجائعة ، ومتعته الغالبة أن يلقى بجسده المنهك على الفراش ليغط فى نوم عميق ،يصحو على حلمه الذى إتخذه هدفا" لايزوغ عنه بصره قيد أنملة ،أن يرى أولاده فى أعلى عليين ،يتبوؤن المكانة والسمو ،كان يزعجه دوما" أن ينصرف أحدهما عن تحصيله الدؤوب ،يجلس فى ركنه المنزوى بضوئه الشاحب يرقبهم عن بعد وهم منكفئون على الكتب والمراجع ،يكبر حلمه يوما" بعد يوم ،لم يسعفه تعليمه المتوسط ان يشد من أزرهم بكلمات الثناء والتحفيز ،فماتلقاه من تربية فى النشئة الاولى وتاثره بها ،كانت فى رأيه سببا" فى صلادته وتحمله غوائل الدهر ونكباته دون أن ينحنى له عود ،هكذا كانت نظرته للامور ،وهكذا أراد أن يكون أولاده ،لكن أصغر ابنائه عبد الرحمن تمرد على القيود والاعراف ،طفل ذكى يقدح جبينه حمرة مشوبة دوما" بقطرات العرق من فرط طاقته المتأججة ،فهكذا كل الاطفال يبددون هذه الطاقة فيما يحلو لهم من لعب ولهو ،لايمر يوم الا وفى أعقابه شكوى وتذمر من الجيران فى حق عبد الرحمن ،ضاق الاب الصارم ذرعا" من كثرة ماتلقى من العتاب ،تفنن مع إبنه بكل ألوان العقاب ،لم يرتدع الابن رغم كل ذلك ،فلم يجد من يقوم سلوكه عن دراية ووعى بتفاصيل مرحلته العمرية ،أحس الاب بوازع من رسوخ معتقده القديم ،أنه فى مأزق أمام أفراد عائلته لفشله فى ردع هذا الابن ، بات يفكر فى طريقة حاسمة للعقاب ،كأنها موقعة حربية بين خصمين لدودين لابد لها من منتصر ،وماكاد نهار اليوم يطوى ضحاه ،حتى عاد عبد الرحمن الى منزله عدوا" ،فى أعقابه رهط من أقرانه يتوعدونه بالنيل منه والويل والثبور ،تنقذه الام من بين أيديهم على عتبة الباب ،يتلقى الابن صفعة قوية حينما رأت الام قميصه ممزقا" ،حين عاد الاب الى المنزل سردت على مسامعه ماكان ،ينهض الاب غاضبا" مزمجرا"ينادى عليه ،يرتجف الابن رعبا" ،يجره الاب جرا" الى الغرفة ،يأتى بحبل ،يقيد معصم الابن بعنف حتى أحكم وثاقه ،يربطه الى عامود الفراش ،يغلق عليه باب الغرفة ،يتوعد بصوت جهورى كل من يقترب من الغرفة لانقاذه ،يصرخ الابن بعد مرور الوقت متألما" ،يشعر الاب بسعادة ،ظنا" منه أنه قد إهتدى أخيرا" إلى الطريقة المثلى للعقاب ،مازال الوقت يمر بساعاته والابن تزداد صرخاته وتعلو شدة ،ولاحياة لمن تنادى ، تتوقف الصرخات ،يهدأ الاب قليلا" فذهب لينام بعض الوقت ،الام حائرة مترددة يأكلها قلبها الواهن على ابنها ،قررت أن تفتح باب الغرفة قليلا" ،تنادى عليه همسا" وفى يدها طبقا" وضعت به الطعام ،لم يتجاوب معها ابنها كعادته ،لكنه وبصوت حزين تغلبه المرارة يرفض الطعام ،تضىء الام مصباح الغرفة ،تشهق شهقة مدوية بعد أن لاحظت تغير لون كف ابنها تماما" ،تنادى على الاب والاولاد ،يهرع الجمع الى الحدث ،يفك الاب وثاقه ،يعبث بكف إبنه التى تغير لونها ،يأمره أن يحرك أصابعه ،يرتعد الابن خوفا" ،يطير به الى المشفى ،يقرر الاطباء بتر الكف اليمنى ،يضرب الاب جبهته العريضة بحائط المشفى مرارا"،يتفجر الدم الغزير منها مع صيحاته المدوية ليتها كانت يدى …..ليتها كانت يدى ….ليتها كانت يدى ،لم يعلق أولاده الجلوس على المقاعد البلاستيكية ببنت شفة سوى شلالات الدموع الجارية من العيون ،تخور قوى الاب ، يهوى فى مكانه يحاول تجفيف دمائه ،يطرق الى الارض واجما" ،يتجمد فى عينيه الحلم الاكبر .